تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟
كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. توجد خريطة جديدة لسوريا في ضوء التوسّع الإسرائيلي على الأرض في الجولان من جهة والإصرار من جهة أخرى على الانتهاء من البنية التحتية للقوّة العسكرية السوريّة. هذه قوّة لم تستخدم يوماً إلّا في قمع الشعب السوري والشعب اللبناني، في مرحلة معيّنة. كان الاستثناء الوحيد خوض حرب أكتوبر (تشرين الأوّل) 1973. كانت تلك الحرب حرباً صبّت في إضفاء شرعية على نظام أقلّوي لم تكن لديه أيّ شرعيّة. أضف إلى ذلك أنّ تلك الحرب لم تستخدم لاستعادة الجولان المحتلّ منذ عام 1967، بمقدار ما استُخدم الاحتلال كي يكون ضمانة لاستمرار نظام حافظ الأسد.
باختصار شديد، جاء سقوط النظام السوري ليؤكّد واقعاً جديداً في المنطقة. يتمثّل هذا الواقع في أفول نجم إيران وتقلّص نفوذها لمصلحة تركيا التي لعبت الدور المحوري في جعل بشّار الأسد يفرّ من دمشق إلى موسكو. في الأمس القريب، كان الراحل حسن نصرالله يريد الصلاة في القدس. اليوم، يتحدّث بنيامين نتنياهو من قمّة جبل الشيخ السوريّ عن رؤيته للأمن الإسرائيلي في ظلّ ما تشهده سوريا من تطوّرات من جهة، وضرورة بقاء الأرض السورية، في جزء منها، تحت الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى.
أقلّ ما يمكن قوله عن سقوط النظام العلويّ – العائلي السوري أنّ الحدث تاريخي. إنّه في مستوى الزلزال العراقي الذي غيّر التوازن الإقليمي في عام 2003. وقتذاك، سلّمت إدارة جورج بوش الابن بلداً مهمّاً اسمه العراق على صحن من فضّة إلى إيران معلنة انتقال السلطة في بغداد من أهل السنّة الذين كانوا يسيطرون عمليّاً على مراكز القرار، بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنيّة، إلى الميليشيات الشيعية التي وضعت نفسها بإمرة “الحرس الثوري” الإيراني. كانت تلك ميليشيات عادت بمعظمها من الأراضي الإيرانيّة إلى بغداد على ظهر دبّابة أميركيّة. في سوريا، لم تكن من حاجة، في 2024، إلى دبّابة تركيّة يدخل عليها زعيم “هيئة تحرير الشام” ومساعدوه ومقاتلوه دمشق.
تبدّل موقع سوريا الإقليمي
لا يمكن اعتبار الحدث السوري حدثاً تاريخياً، نظراً إلى سقوط نظام آل الأسد، الذي عمّر 54 عاماً فحسب، بل لأنّ دور سوريا كقوّة إقليمية، بسبب موقعها الجغرافي، سيتبدّل جذرياً أيضاً. انتقلت سوريا من سيطرة آل الأسد ثمّ من الوقوع تحت السيطرة الإيرانية والروسيّة، إلى حدّ ما… إلى السيطرة التركيّة على الجزء الأكبر من أراضيها. لا شكّ أنّ إسرائيل ستبقى قوّة احتلال بعدما ضمّت الجولان السوري رسمياً، وبعدما قرّرت توسيع هذا الاحتلال للجولان في اتّجاه جبل الشيخ. لكنّ السؤال: ما الذي ستفعله تركيا بالاختراق الذي حقّقته سوريّاً معتمدة على “هيئة تحرير الشام”، “جبهة النصرة” سابقاً، وشخصيّة مثل أحمد الشرع، أي أبي محمّد الجولاني سابقاً. هل تمتلك تركيا الأدوات التي تسمح لها بجعل سوريا منطقة نفوذ لديها، بتفاهم مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل في الوقت ذاته؟
تغيّرت خريطة الشرق الأوسط انطلاقاً من سوريا بفعل عاملين: أوّلهما توسّع إسرائيل في الجولان، إثر رحيل بشّار الأسد، وذهابها إلى السيطرة على قمّة جبل الشيخ التي تشرف منها الدولة العبريّة على العمقين السوري واللبناني. أمّا العامل الآخر فهو عامل الدور التركي الذي يأخذ في الاعتبار المصالح الإسرائيلية على كلّ صعيد.
توجد عوامل عدّة أخرى لعبت دورها في سقوط النظام السوري بعد رفع إسرائيل الغطاء عنه. التقطت تركيا رفع الغطاء الإسرائيلي عن بشّار الأسد ونظامه. في مقدّم هذه العوامل فتح الحزب جبهة جنوب لبنان في اليوم التالي لـ”طوفان الأقصى”، في الثامن من تشرين الأول 2023. خرج الحزب يومذاك وخرجت معه “الجمهوريّة الإسلاميّة” من تفاهمات مع إسرائيل خاصّة بـ”ساحة” جنوب لبنان وقواعد الاشتباك فيها. لم يستوعب “الحزب”، ومن خلفه إيران، معنى تهجير آلاف الإسرائيليين من مستوطنات في الجليل قريبة من الحدود مع لبنان. لم يستوعب بشّار الأسد في أيّ وقت معنى متابعة استخدام الأراضي السورية لتمرير الصواريخ والأسلحة المختلفة من إيران وروسيا إلى “الحزب” والنتيجة التي ستترتّب على ذلك.
تركيا قوّة اعتدال؟
مرّة أخرى، هل من مشروع تركيّ متكامل لسوريا التي دخلت مرحلة جديدة؟ سيعتمد الكثير على تعاون تركي – عربي في هذا المجال، يجعل من تركيا قوّة اعتدال، وعلى قدرة الرئيس رجب طيب إردوغان على جعل أحمد الشرع يحلّ مكان أبي محمّد الجولاني. استطاع الجولاني تغيير اسمه، فهل يستطيع تغيير سلوكه بمعنى العمل على تحويل سوريا إلى دولة حضاريّة بعيداً عن أيّ نوع من أنواع التطرّف وفرض قوانين معيّنة على المجتمع على طريقة “طالبان” في أفغانستان أو “الحرس الثوري” في إيران؟
عاجلاً أم آجلاً، سيتبيّن هل تركيا قادرة على النجاح في الامتحان السوري والتحوّل إلى قوّة اعتدال والاستفادة من حيويّة المجتمع في بلد قاوم نظام آل الأسد سنوات طويلة. أظهر هذا المجتمع السوري أنّه لا يمكن الاستهانة به. إنّه مجتمع متنوّع يستطيع التطوّر في كلّ الميادين. الأمل أن تتفادى تركيا الرهان على الإسلام السياسي الذي في أساسه فكر الإخوان المسلمين الذي ولدت من رحمه كلّ التنظيمات الإرهابيّة من “القاعدة” إلى داعش” مروراً بـ”جبهة النصرة”، الأمّ الشرعيّة لـ”هيئة تحرير الشام”.
تبقى ضرورة الإشارة إلى ضرورة تخلّص تركيا من عقدة الأكراد. لا يختلف اثنان على أنّ اعتراض تركيا على حزب العمّال الكردستاني له ما يبرّره. هذا الحزب لا يمثّل كلّ الأكراد. هل تستطيع لعب دور تحويل سوريا إلى دولة ديمقراطية تستوعب كلّ القوميات والديانات التي على أرض هذا البلد، بما في ذلك الأكراد… أم هناك إصرار تركي على الاصطدام بهؤلاء؟
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|